نص المتن :
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ ٥٤ﵞ [آل عمران: 54]؛ فَمَعْنَاهُ: أَنْفَذُهُمْ وَأَسْرَعُهُمْ مَكْرًا.
وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُ السَّلَفِ مَكْرَ اللَّهِ بِعِبَادِهِ بِأَنَّهُ اسْتِدْرَاجُهُمْ بِالنِّعَمِ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ، فَكُلَّمَا أَحْدَثُوا ذَنْبًا أَحْدَثَ لَهُمْ نِعْمَةً؛ وَفِي الْحَدِيثِ: { إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا مَا يُحِبُّ وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى مَعْصِيَتِهِ؛ فَاعْلَمْ أَنَّمَا ذَلِكَ مِنْهُ اسْتِدْرَاجٌ }.
وَقَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي شَأْنِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ أَرَادَ الْيَهُودُ قَتْلَهُ، فَدَخَلَ بَيْتًا فِيهِ كُوَّةٌ، وَقَدْ أَيَّدَهُ اللَّهُ بِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَرَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ مِنَ الْكُوَّةِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ يَهُوذَا؛ لِيَدُلَّهُمْ عَلَيْهِ فَيَقْتُلُوهُ، فَأَلْقَى اللَّهُ شَبَهَ عِيسَى عَلَى ذَلِكَ الْخَائِنِ، فَلَمَّا دَخَلَ الْبَيْتَ فَلَمْ يَجِدْ فِيهِ عِيسَى؛ خَرَجَ إِلَيْهِمْ وَهُوَ يَقُولُ: مَا فِي الْبَيْتِ أَحَدٌ، فَقَتَلُوهُ وَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهُ عِيسَى، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ( وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُۖ ).
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَكَرُواْ مَكۡرٗا .. إِلَخْ؛ فَهِيَ فِي شَأْنِ الرَّهْطِ التِّسْعَةِ مِنْ قَوْمِ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ ﵟتَقَاسَمُواْ بِٱللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُۥ وَأَهۡلَهُۥﵞ [النمل: 49]
أَيْ: لَيَقْتُلُنَّهُ بَيَاتًا هُوَ وَأَهْلَهُ، ﵟثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِۦ مَا شَهِدۡنَا مَهۡلِكَ أَهۡلِهِۦﵞ [النمل: 49]
، فَكَانَ عَاقِبَةُ هَذَا الْمَكْرِ مِنْهُمْ أَنْ مَكَرَ اللَّهُ بِهِمْ فَدَمَّرَهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ.
إِثْبَاتَ صِفَاتِ الْعَفْوِ وَالْقُدْرَةِ وَالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ والعزة وَالتَّبَارُكِ وَالْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ
(وَقَوْلُهُ: ﵟإِن تُبۡدُواْ خَيۡرًا أَوۡ تُخۡفُوهُ أَوۡ تَعۡفُواْ عَن سُوٓءٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّٗا قَدِيرًا ١٤٩ﵞ [النساء: 149] .
ﵟوَلۡيَعۡفُواْ وَلۡيَصۡفَحُوٓاْۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغۡفِرَ ٱللَّهُ لَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٌ ٢٢ﵞ [النور: 22]
قَوْلُهُ: (إِن تُبۡدُواْ خَيۡرًا).. إِلَخْ؛ هَذِهِ الْآيَاتُ تَضَمَّنَتْ إِثْبَاتَ صِفَاتِ الْعَفْوِ وَالْقُدْرَةِ وَالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْعِزَّةِ وَالتَّبَارُكِ وَالْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ.
فَالْعَفُوُّ الَّذِي هُوَ اسْمُهُ تَعَالَى؛ مَعْنَاهُ: الْمُتَجَاوِزُ عَنْ عُقُوبَةِ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ تَابُوا إِلَيْهِ وَأَنَابُوا؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:ﵟوَهُوَ ٱلَّذِي يَقۡبَلُ ٱلتَّوۡبَةَ عَنۡ عِبَادِهِۦ وَيَعۡفُواْ عَنِ ٱلسَّيِّـَٔاتِﵞ .
وَلَمَّا كَانَ أَكْمَلُ الْعَفْوِ هُوَ مَا كَانَ عَنْ قُدْرَةٍ تَامَّةٍ عَلَى الِانْتِقَامِ وَالْمُؤَاخَذَةِ؛ جَاءَ هَذَانِ الِاسْمَانِ الْكَرِيمَانِ: الْعَفُوُّ وَالْقَدِيرُ مُقْتَرِنَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي غَيْرِهَا.
وَأَمَّا الْقُدْرَةُ؛ فَهِيَ الصِّفَةُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْمُمْكِنَاتِ إِيجَادًا وَإِعْدَامًا، فَكُلُّ مَا كَانَ وَوَقَعَ مِنَ الْكَائِنَاتِ وَاقِعٌ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: { مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ } .
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلۡيَعۡفُواْ وَلۡيَصۡفَحُوٓاْۗ).. الْآيَةَ؛ فَقَدْ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ أَبِي بَكْرٍ t حِينَ حَلَفَ لَا يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ، وَكَانَ مِمَّنْ خَاضُوا فِي الْإِفْكِ، وَكَانَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ بِنْتَ خَالَةِ أَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: (وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي)، وَوَصَلَ مِسْطَحًا.
ظهر الخميس 11 شوال 1443هـ