نص المتن :
(وَفِي بَابِ [أَسْمَاءِ] (1) الإِيمَانِ والدِّينِ بَيْنَ الْحَرُورِيَّةِ (2) وَالْمُعْتَزِلَةِ (3) ، وَبَيْنَ الْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ (4)) .]ـ
/ش/ قَوْلُهُ: ((وَفِي بَابِ أَسْمَاءِ الْإِيمَانِ … )) إلخ؛ كَانَتْ مَسْأَلَةُ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ من أول ماوقع فِيهِ النِّزَاعُ فِي الْإِسْلَامِ بَيْنَ الطَّوَائِفِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَكَانَ لِلْأَحْدَاثِ السِّيَاسِيَّةِ وَالْحُرُوبِ الَّتِي جَرَتْ بَيْنَ عليٍّ وَمُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي ذَلِكَ الْحِينِ، وَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهَا مِنْ ظُهُورِ الْخَوَارِجِ وَالرَّافِضَةِ والقدريَّة أَثَرٌ كَبِيرٌ فِي ذَلِكَ النِّزَاعِ.
وَالْمُرَادُ بِالْأَسْمَاءِ هُنَا أَسْمَاءُ الدِّينِ، مِثْلُ: مُؤْمِنٍ، وَمُسْلِمٍ، وَكَافِرٍ، وَفَاسِقٍ … إلخ.
وَالْمُرَادُ بِالْأَحْكَامِ أَحْكَامُ أَصْحَابِهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
فَالْخَوَارِجُ الْحَرُورِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ لَا يستحقُّ اسمَ الْإِيمَانِ إِلَّا مَن صدَّق بجَنانه، وأقرَّ بِلِسَانِهِ، وَقَامَ بِجَمِيعِ الْوَاجِبَاتِ، وَاجْتَنَبَ جَمِيعَ الْكَبَائِرِ. فَمُرْتَكِبُ الْكَبِيرَةِ عِنْدَهُمْ لَا يُسَمَّى مُؤْمِنًا بِاتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ.
وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا: هَلْ يسمَّى كَافِرًا أَوْ لَا؟
فَالْخَوَارِجُ يُسَمُّونَهُ كَافِرًا، ويستحلِّون دَمَهُ وَمَالَهُ، وَلِهَذَا كفَّروا عَلِيًّا وَمُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابَهُمَا، واستحلُّوا مِنْهُمْ مَا يستحلُّون مِنَ الْكُفَّارِ.
وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ؛ فَقَالُوا: إِنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ خَرَجَ مِنَ الْإِيمَانِ وَلَمْ يَدْخُلْ فِي الْكُفْرِ؛ فَهُوَ بِمَنْزِلَةٍ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ، وَهَذَا أَحَدُ الْأُصُولِ الَّتِي قَامَ عَلَيْهَا مَذْهَبُ الِاعْتِزَالِ.
واتَّفق الْفَرِيقَانِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَن مَاتَ عَلَى كَبِيرَةٍ وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا فَهُوَ مخلَّد فِي النَّارِ.
فَوَقَعَ الِاتِّفَاقُ بَيْنَهُمَا فِي أَمْرَيْنِ:
1- نَفْيُ الْإِيمَانِ عَنْ مُرْتِكِبِ الْكَبِيرَةِ.
2- خُلُودُهُ فِي النَّارِ مَعَ الْكُفَّارِ.
وَوَقَعَ الْخِلَافُ أَيْضًا فِي مَوْضِعَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تَسْمِيَتُهُ كَافِرًا.
وَالثَّانِي: اسْتِحْلَالُ دَمِهِ وَمَالِهِ، وَهُوَ الْحُكْمُ الدُّنْيَوِيُّ.
وَأَمَّا الْمُرْجِئَةُ؛ فَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ مَذْهَبِهِمْ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ مَعْصِيَةٌ؛ فَمُرْتَكِبُ الْكَبِيرَةِ عِنْدَهُمْ مؤمنٌ كَامِلُ الْإِيمَانِ، وَلَا يستحقُّ دُخُولَ النَّارِ.
فَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وسطٌ بَيْنَ هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ؛ فَمُرْتَكِبُ الْكَبِيرَةِ عِنْدَهُمْ مؤمنٌ نَاقِصُ الْإِيمَانِ، قَدْ نَقَصَ مِنْ إِيمَانِهِ بِقَدْرِ مَا ارْتَكَبَ مِنْ مَعْصِيَةٍ، فَلَا يَنْفُونَ عَنْهُ الْإِيمَانَ أَصْلًا؛ كَالْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَلَا يَقُولُونَ بِأَنَّهُ كَامِلُ الْإِيمَانِ؛ كَالْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ. وَحُكْمُهُ فِي الْآخِرَةِ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ قَدْ يَعْفُو اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ ابْتِدَاءً، أَوْ يعذِّبه بِقَدْرِ مَعْصِيَتِهِ، ثُمَّ يُخْرِجُهُ وَيُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ كَمَا سَبَقَ، وَهَذَا الْحُكْمُ أَيْضًا وَسَطٌ بَيْنَ مَن يَقُولُ بِخُلُودِهِ فِي النَّارِ، وَبَيْنَ مَن يَقُولُ: إِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى الْمَعْصِيَةِ عِقَابًا.
ـ[ (وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بَيْنَ [الرَّافِضَةِ] (1) [و] (2) الْخَوَارِجِ) (3) .]ـ
/ش/ قَوْلُهُ: ((وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ … )) إلخ. الْمَعْرُوفُ أَنَّ الرَّافِضَةَ ـ قبَّحهم اللَّهُ ـ يَسُبُّونَ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَيَلْعَنُونَهُمْ، وَرُبَّمَا كفَّروهم أَوْ كفَّروا بَعْضَهُمْ، وَالْغَالِبِيَّةُ مِنْهُمْ ـ مَعَ سَبِّهِمْ لِكَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالْخُلَفَاءِ ـ يَغْلُونَ فِي عليٍّ وَأَوْلَادِهِ، وَيَعْتَقِدُونَ فِيهِمُ الْإِلَهِيَّةَ.
وَقَدْ ظَهَرَ هَؤُلَاءِ فِي حَيَاةِ عليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِزِعَامَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَبَأٍ الَّذِي كَانَ يَهُودِيًّا وَأَسْلَمَ وَأَرَادَ أَنْ يَكِيدَ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ؛ كَمَا كَادَ الْيَهُودُ مِنْ قَبْلُ لِلنَّصْرَانِيَّةِ وَأَفْسَدُوهَا عَلَى أَهْلِهَا، وَقَدْ حرَّقهم عَلِيٌّ بِالنَّارِ لِإِطْفَاءِ فِتْنَتِهِمْ، وَرُوِيَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ:
لَمَّا رَأَيْتُ الأَمْرَ أَمْرًا مُنْكَرًا … أَجَّجْتُ نَارِي وَدَعَوْتُ قَنْبَرًا (4)
وَأَمَّا الْخَوَارِجُ؛ فَقَدْ قَابَلُوا هَؤُلَاءِ الرَّوَافِضَ، فكفَّروا عَلِيًّا وَمُعَاوِيَةَ ومَن مَعَهُمَا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقَاتَلُوهُمْ واستحلُّوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ.
وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ؛ فَكَانُوا وَسَطًا بَيْنَ غلوِّ هَؤُلَاءِ وَتَقْصِيرِ أُولَئِكَ، وَهَدَاهُمُ اللَّهُ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِفَضْلِ أَصْحَابِ نبيِّهم، وَأَنَّهُمْ أَكْمَلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِيمَانًا وَإِسْلَامًا وَعِلْمًا وَحِكْمَةً، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَغْلُوا فِيهِمْ، وَلَمْ يَعْتَقِدُوا عِصْمَتَهُمْ؛ بَلْ قَامُوا بِحُقُوقِهِمْ، وأحبُّوهم لِعَظِيمِ سَابِقَتِهِمْ وَحُسْنِ بَلَائِهِمْ فِي نُصْرَةِ الْإِسْلَامِ وَجِهَادِهِمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –
ظهر الأربعاء 16 ذو القعدة 1443هـ