نص المتن :
وَقَدْ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بَعْضَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عِلْمُهُ؛ لِلدَّلَالَةِ عَلَى شُمُولِهِ وَإِحَاطَتِهِ بِمَا لَا تَبْلُغُهُ عُلُومُ خَلْقِهِ: فَذَكَرَ أَنَّهُ: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ؛ أَيْ: يَدْخُلُ فِي الْأَرْضِ مِنْ حَبٍّ وَبِذْرٍ وَمِيَاهٍ وَحَشَرَاتٍ وَمَعَادِنَ، وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ زَرْعٍ وَأَشْجَارٍ وَعُيُونٍ جَارِيَةٍ وَمَعَادِنَ نَافِعَةٍ كَذَلِكَ، وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ ثَلْجٍ وَأَمْطَارٍ وَصَوَاعِقَ وَمَلَائِكَةٍ، وَمَا يَعْرُجُ؛ أَيْ: يَصْعَدُ (فِيهَا) كَذَلِكَ مِنْ مَلَائِكَةٍ وَأَعْمَالٍ وَطَيْرٍ صَوَافَّ.. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَعْلَمُهُ جَلَّ شَأْنُهُ.
وَذَكَرَ فِيهَا أَيْضًا أَنَّ عِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ، وَمَفَاتِحُ الْغَيْبِ؛ قِيلَ: خَزَائِنُهُ، وَقِيلَ: طُرُقُهُ وَأَسْبَابُهُ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَيْهِ، جَمْعُ مِفْتَحٍ؛ بِكَسْرِ الْمِيمِ، أَوْ مِفْتَاحٍ؛ بِحَذْفِ يَاءِ مَفَاعِيلَ.
وَقَدْ فَسَّرَهَا النَّبِيُّ r بِقَوْلِهِ: { مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ، ثُمَّ تلَا قَوْلَهُ تَعَالَى:
ﵟإِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُۥ عِلۡمُ ٱلسَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ ٱلۡغَيۡثَ وَيَعۡلَمُ مَا فِي ٱلۡأَرۡحَامِۖ وَمَا تَدۡرِي نَفۡسٞ مَّاذَا تَكۡسِبُ غَدٗاۖ وَمَا تَدۡرِي نَفۡسُۢ بِأَيِّ أَرۡضٖ تَمُوتُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرُۢ ٣٤ ﵞ [لقمان: 34]
وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَتَانِ الْأَخِيرَتَانِ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَالِمٌ بِعِلْمٍ هُوَ صِفَةٌ لَهُ، قَائِمٌ بِذَاتِهِ؛ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ نَفَوْا صِفَاتِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ عَالِمٌ بِذَاتِهِ، وَقَادِرٌ بِذَاتِهِ.. إلخ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَ أَسْمَاءَهُ بِمَعَانٍ سَلْبِيَّةٍ، فَقَالَ: عَلِيمٌ؛ مَعْنَاهُ: لَا يَجْهَلُ، وَقَادِرٌ؛ مَعْنَاهُ: لَا يَعْجِزُ.. إلخ.
وَهَذِهِ الْآيَاتُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، فَقَدْ أَخْبَرَ فِيهَا سُبْحَانَهُ عَنْ إِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِحَمْلِ كُلِّ أُنْثَى وَوَضْعِهَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَالْكَيْفِ؛ كَمَا أَخْبَر عَنْ عُمُومِ قُدْرَتِهِ، وَتَعَلُّقِهَا بِكُلِّ مُمْكِنٍ، وَعَنْ إِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ.
وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْمَكِّيُّ فِي كِتَابِهِ (الْحِيدَةِ) لِبِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ الْمُعْتَزِلِيِّ وَهُوَ يُنَاظِرُهُ فِي مَسْأَلَةِ الْعِلْمِ: (إِنَّ اللَّهَ U لَمْ يَمْدَحْ فِي كِتَابِهِ مَلَكًا مُقَرَّبًا وَلَا نَبِيًّا مُرْسَلًا وَلَا مُؤْمِنًا تَقِيًّا بِنَفْيِ الْجَهْلِ عَنْهُ؛ لِيَدُلَّ عَلَى إِثْبَاتِ الْعِلْمِ لَهُ، وَإِنَّمَا مَدَحَهُمْ بِإِثْبَاتِ الْعِلْمِ لَهُمْ، فَنَفَى بِذَلِكَ الْجَهْلَ عَنْهُمْ.. فَمَنْ أَثْبَتَ الْعِلْمَ نَفَى الْجَهْلَ، وَمَنْ نَفَى الْجَهْلَ لَمْ يُثْبِتِ الْعِلْمَ).
وَالدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ عَلَى عِلْمِهِ تَعَالَى أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ إِيْجَادُهُ الْأَشْيَاءَ مَعَ الْجَهْلِ؛ لِأَنَّ إِيجَادَهُ الْأَشْيَاءَ بِإِرَادَتِهِ، وَالْإِرَادَةُ تَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِالْمُرَادِ، وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ:
ﵟأَلَا يَعۡلَمُ مَنۡ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ ١٤ ﵞ [الملك: 14]
ليلة الأحد 13 ربيع الأول 1443 هـ